“مهندس وطبيب وصيدلي” هوس يسيطر على طلاب الثانوية العامة وأولياء الأمور منذ إعلان النتيجة، وبدء التسجيل في المرحلة الأولى التي رفعت الحد الأدنى للقبول بـ “كليات القمة” بسبب زيادة المجاميع.
فما بين الوجاهة وإيجاد فرصة عمل تأتي أسباب تمسك الآباء بدخول أبنائهم تلك الكليات، دون النظر لموهبة كل طالب له موهبته وقدراته التي لا بد من إطلاق العنان لها، بدلا من كبتها، رغبة في الوصول إلى كليات القمة.
ووفقا لمراقبين، يعاني مجتمعنا المصري من بعض الأفكار السلبية، التي تهيمن وتسيطر على جميع الأسر، وتضع الشباب تحت ضغوط نفسية قد تودي بحياتهم وتفقدهم الثقة بأنفسهم، وتجعلهم يشعرون بالفشل، بمجرد التفكير بعدم الوصول إلي ما يسمونه بـ”كليات القمة”.
وجاهة اجتماعية
أصبحت ما تعرف بـ”كليات القمة” مجرد وسيلة للحصول على شهادة تمنح صاحبها وجاهة اجتماعية، فلا يمانع بعض أولياء الأمور في دفع عشرات الآلاف من الجنيهات، نظير إلحاق أبنائهم بالجامعات الخاصة ودخول كليات القمة، ما يجعلهم بعد التخرج من المتساوين في الدرجة العلمية مع طلاب الجامعات الحكومية.
وقال محمود كامل، ولي أمر طالبة التحقت بكلية طب الأسنان تابعة لجامعة خاصة: “لا يعنيني أن تعمل ابنتي، المهم أن تحمل لقب طبيبة، لأن التعليم شهادة يحتاجها الشاب والفتاة كنوع من الوجاهة عند الزواج، وتكوين علاقات اجتماعية”.
وفي هذا السياق، قال محمد عبد العزيز، عضو النقابة العامة لأطباء الأسنان: “إن تمسك بعض الآباء بإلحاق أبنائهم بكليات بعينها رغم التهديد بعدم تسجيلهم وحرمانهم من مزاولة المهن، يعكس تطور الهوس المجتمعي بما يسمّى كليات القمة، وهو الوتر الذي تلعب عليه الجامعات الخاصة، لجني المزيد من المكاسب المالية.
وأوضح “من الضروري أن تتعامل الجامعات مع سوق العمل بمنطق الأولويات، ولا تكون حرّة في إنشاء الكليات دون ضوابط، بحيث تواكب متطلبات العصر، بعيدا عن فكرة الاستثمار، وتكون هناك كليات جديدة ونادرة التخصصات، تغري الأسر والطلاب، وتنافس بها الجامعات الحكومية، وليس أن تكون مصدرا لتضخيم معدلات البطالة بالمجتمع”.
هوس كليات القمة
في حين رأى آخرون أن من بين أكبر أسباب هذه الظاهرة هو الانعزال التام بين الجامعة وسوق العمل، التي أجبرت الطالب على التفكير في الوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة مضمونة دون تعب، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق مجموع عالٍ في الثانوية يؤهله إلى الالتحاق بكلية الطب، ثم العمل في وظيفة تليق فور التخرج.
ورأى كمال مغيث، الخبير التربوي، أن موضوع هوس كليات القمة سببه الرئيسي هو أن العلاقة بين منظومة التعليم والعمل أصبحت غير موجودة بالمرة، ولهذا السبب يضطر الطلاب إلى التفكير فيما يسمى بكليات القمة، المنحصرة في “طب – هندسة”، ظنا منهم أن هذا هو الطريق للتأهيل لسوق العمل، سواء داخل البلد أو خارجها.
وأضاف “مغيث” في تصريحات صحفية: “أن الثانوية العامة في السبعينات عندما لم تكن البطالة بهذا الشكل الفج، لم تظهر مشكلة كليات القمة، وبالتالي كان طالب الثانوية العامة الحاصل على 80% يدرس في كلية طب”.
وتابع: “وكان الطالب الحاصل على 56% يدرس في كلية حقوق، وبعد الانتهاء من فترة الدراسة يتخرج الطالب ويبدأ في ممارسة العمل فورا، وبالتالي لم تكن موجودة أزمة كليات القمة، التي ظهرت بسبب البطالة الشديدة”.
واعتبر “مغيث” أن نظام التعليم الجديد لن يغير من “هوس كليات القمة” قائلا: “إنه لا يوجد في مصر نظام تعليم جديد من الأساس، فالتجربة كانت واضحة أنها فاشلة، بدليل أن طارق شوقي، وزير التربية والتعليم، تراجع عن نظام التابلت في امتحانات الفرصة الثانية لطلاب الصف الأول الثانوي 2019”.
سوق العمل مكدسا
الإقبال المتزايد على الجامعات الخاصة أدى إلي أزمة وزارة التعليم العالي والنقابات الخمسة، إذ اشترطت عدم قبول أي خريج من جامعة خاصة إلا بعد التأكد من حصوله على مجموع لا يقل عن 5% عن تنسيق القبول بالجامعات الحكومية، لأن سوق العمل في هذه المهن أصبح مكدسا، كما أن غالبية الحاصلين على شهادات من جامعات خاصة تبين أن مستواهم العلمي منخفض للغاية.
والعام الماضي أكد مجلس نقابة الصيادلة، أنه جرت مخاطبة الجامعات بعدم قبول أكثر من ثلاثة آلاف طالب هذا العام، لأن سوق العمل متشبع بالصيادلة، ولا يحتاج إلى صيدلي واحد قبل مرور خمس سنوات، وكانت المفاجأة أن الجامعات (الحكومية والخاصة) قبلت 15 ألف طالب وطالبة.
ويتجاوز عدد الصيادلة في مصر المعدلات العالمية، وهناك صيدلي تقريبا لكل 1425 شخصا، في حين تقول المعايير الدولية: “إن كل خمسة آلاف شخص لهم صيدلي واحد”.
وتحتل مصر مرتبة عالمية متقدمة في عدد أطباء الأسنان، وهناك 50 ألف طبيب مسجل بجداول النقابة، ويزاولون المهنة، بما يعني أن هناك طبيبا لكل 1800 مواطن، وخلال ثلاث سنوات، وفق منظومة الالتحاق المعمول بها في الجامعات حاليا، سوف يكون هناك طبيب لكل 900 شخص”.
تغيير ثقافة
وطالب خبراء علم النفس بضرورة تغيير تلك الثقافة في سبيل تقدم المجتمع، وأشارت أسماء عبد العظيم، استشاري الصحة النفسة، إلى أنه لا بد من تغيير ثقافة ما يعرف بـ”كليات القمة”، واعتبار أن عدم الالتحاق بها يمثل فشلا، لأن هذا سيؤثر بالطبع على حياة الطالب ومستقبله.
ولفتت إلى أن مجلة “برين ستوري” الخاصة بالأبحاث العلمية نشرت التخصصات الأكثر طلبا في التوظيف، وهي: علوم الحاسب والاتصالات، العلوم السياسية، مجال البيزنس والأعمال، الاقتصاد، اللغة الإنجليزية وآدابها، علم النفس، التمريض، الهندسة الكيميائية، الأحياء.
وتساءلت “أسماء” ما الفائدة من كثرة أعداد الخريجين من مختلف الجامعات، ولا يوجد سوق عمل، ولكن حينما يصبح الكل أطباء كيف ستكمل المنظومة، ومن سيلبي طلباتنا الأخرى، هناك حكمة تقول: “كن رأس كلب ولا تكن ذيل أسد، بمعنى أن تكون دائما في المقدمة”.
أضف تعليق